”قد تدوم أساسات مبنى لألف عام، بينما يستوجب تغيير هيكل السطح بعد ألف شهر. وقد تدوم التمديدات الصحية لألف أسبوع، والدهان الخارجي لألف يوم، واللمبة لألف ساعة. يجب أن تُفهم المباني من خلال مقاييس زمنية مختلفة تتغير أثناءها“.1
لطالما كانت العمارة أداة فعالة في تشكيل حقائق على أرض الواقع، وفي مساعدة مختلف البرامج السياسية والإيديولوجية على تخطي حيز الأفكار النظرية والمجردة، لتصبح بذلك واقعاً ملموساً يحيط بالأفراد ويتداخل مع حياتهم الآنية ورؤيتهم للمستقبل. وبالمقابل، فعند فشل تلك الإيديولوجيات والبرامج، تصبح تلك العمارة تجسيداً مادياً وملموساً لذلك الفشل من خلال مبانٍ أقرب ما تكون إلى صروحٍ لأفكار منتهية الصلاحية أو نموذج لما يجب تجنب فعله، على أحسن تقدير.
منذ نهاية السبعينيات، لم يعد بالإمكان فهم نتاج العمارة ودور المعماري بمعزل عن المنظومة الرأسمالية العالمية والديناميكيات الناظمة لها. إذ أصبحت قيمة المباني مرتبطة بشكل أساسي باعتبارات الموقع، والمساحة، والعائد المالي المحتمل لبيعها، حيث يكفي ألا يعاني المبنى من خلل تقني فادح حتى تصبح جودة التصميم المعماري (الفراغية، والجمالية، والوظيفية) ثانوية في تحديد قيمته، تتخطاها قدرته على تحقيق الربح.2 وبذلك، باتت المشاريع العمرانية والبناء الشامل أو البناء واسع النطاق (Mass Construction) أحد أهم المحركات الأساسية لعجلة الاقتصاد، في معادلة تتحول فيها المباني إلى سلعة، وتستقل فيها القيمة التبادلية عن القيمة الاستعمالية، ولا تأتي عملية البناء فيها كاستجابة للنمو السكاني العالمي وإنما كنتيجة لتجاذبات العرض والطلب في الأسواق العقارية. ورغم أن انتشار البناء واسع النطاق ليس مرتبطاً بشكل حصري بالرأسمالية العالمية، حيث يمكن تعقبه في فترات سابقة، ابتداء من الثورة الصناعية ومرورا بالحربين العالميتين، وضمن برامج سياسية مختلفة سعت إلى توفير أبنية سكنية سريعة البناء ومنخفضة التكلفة، إلا أن حاجة الرأسمالية العالمية، في العقود الأخيرة، إلى خلق أسواق جديدة من خلال التوسع المناطقي وهاجس التجديد المستمر أصبح الناظم الأساسي لديناميكيات البناء والهدم، والذي يروج له دائما في إطار التقدم والازدهار.
تتطرق هذه المقالة إلى ديناميكيات رأس المال وأثره في الانتاج المعماري في القرنين العشرين والواحد والعشرين. نستعرض فيها ظاهرة هجران المباني المتزايدة في العالم وخصوصيتها عن فترات سبقتها. ونحاول فهم هذه الظاهرة من خلال تتبع الفكر الذي يحصر التفكير في المستقبل بالتقدم وانعكاسه على النظرة الكلاسيكية للخط الزمني لحياة المباني وعملية التصميم المعماري. كما تبحث المقالة في أجزائها اللاحقة في آليات احتواء منظومة الرأسمالية العالمية لطروحات معمارية مختلفة كالعمارة البيئية، وإعادة الاستخدام التكيفي للمباني، ومشاريع إعادة الإعمار، وعمارة اللجوء المؤقتة في سبيل تحقيق الأرباح المادية.
وأخيرا، نستعرض إمكانيات مختلفة للتفكير في دورة حياة المبنى منذ إقرار بنائه، والتي تتخطى مفهوم التقدم الخطي وثنائية النقاش الذي يضع العمارة الحديثة والمعاصرة مقابل العمارة التاريخية في محاولة لتفضيل أحدهما على الآخر. وعليه، يكمن التحدي في كيفية تصميم حيوات متعددة للمبنى الواحد، مناسبة لمجتمع النمو والتراجع الدوري كوسيلة للتعامل مستقبلا مع إرث البشرية المبني. إذ بات من الضروري الآن الحديث عن عمارة تأخذ في الحسبان إمكانية فشل البرنامج الذي بنيت من أجله لتخدم الحاجات المتغيرة للمجتمع في جميع مراحله (مراحل التراجع إضافة إلى مراحل التقدم)، مختلفة بذلك عن تلك الرؤية الطوباوية التي قدمها لنا مشروع الحداثة الذي لم ير في المستقبل سوى التقدم والتطور. إن التسليم بحتمية هجر عمران بأكمله عند انتهاء البرنامج الإيديولوجي الذي بني من أجله، أصبح ترفاً وعبئاً بيئيا ووجودياً لمجتمعات دائمة التغير وكوكب محدود الموارد.
أطلال الرأسمالية
صدر في العام 2014 كتاب بعنوان ”على المباني أن تموت“ لستيفن كيرنز وجاين م جاكوبز3، والذي يبحث في مفهوم موت المبنى، ويطرح نقاشاً يبدو ضرورياً وملحاً أكثر من أي وقت مضى حول التفكير في النهايات المحتملة للمباني، وما يترتب عليها من إعادة تفكير في عملية البناء بحد ذاتها، نظراً للكمّ غير المسبوق من الإنتاج المعماري. فبعدما كانت الطبيعة صاحبة الدور الأجلّ في فناء العمارة وتحولها إلى أطلال، باتت المباني المهجورة في عصرنا تتحول إلى مخلفات.4
يجول اليوم الباحثون والمصورون لتوثيق مئاتٍ من مباني القرن العشرين المهجورة في أنحاء العالم؛ ابتداءً من محطات الطاقة، وأماكن السكن العامة، والأسواق التجارية، ووصولاً إلى مدنٍ كاملة، كديترويت مثلاً، للبحث في السبب وراء هجرها، أو احتفاءً بها، أو أملاً في إيجاد طرق لإعادة استخدامها. وقد نقف قريبا أمام أطلال ”المدن ما بعد الصناعية“ المعتمدة على اقتصادٍ خدماتي متمثل بالزحف العمراني منخفض الكثافة - من أسواق تجارية، ومجمعات سكنية، ومجتمعات مسوّرة، ومقرات شركات – لتختفي كالسحر فاسحة المجال لغيرها، أو تُرمى كالسلعة عديمة الفائدة.
أتاحت التكنولوجيا إمكانية فصل الإنتاج المعماري عن سياقه الجغرافي، متيحة بذلك المجال أمام المعماريين التغاضي عن المحددات البيئية المحيطة. وهو ما ساعد على خلق ذلك الفراغ الذي يطلق عليه ريم كوولهاس ”الفراغ الميت“ (Junkspace)، أي ذلك الفراغ الزائد عن الحاجة، صنيع الحداثة، والذي ينتج الكثير منه في سبيل الرخاء والمتعة، ويعتاش على أي اختراع يسمح له بالتمدد. هذا الفراغ هو فراغ تراكمي، متعدد الطبقات، ”خفيف الوزن“، لايمكن تذكره لأنه من الصعب فهمه أو استيعابه:
”الفضاء الميّت هو مجموع إنجازاتنا؛ ما قمنا ببنائه هو أكثر مما عمّرت كل الأجيال السابقة مجتمعة، وإن اختلفت المقاييس، فنحن لا نخلف أهرامات. وفقا لإنجيل القباحة الجديد، هناك بالفعل فضاء ميّت قيد الإنشاء في القرن الحادي والعشرين أكثر من ذلك المتبقي من القرن العشرين [...] الاستمرارية هي جوهر الفضاء الميت، فهو يستغل أي اختراع يمكّنه من التوسع، ومن تواصل فراغي سلس: المصعد، ومكيف الهواء، ورشاش الماء، والأبواب المقاومة للنار، وستارة الهواء الساخن ... وهو دائماً داخلي وممتد، ونادراً ما تستطيع تصور حدوده. وهو يروج التوهان بأي وسيلة (مرآة، مواد تلميع، صدى) ... الفضاء الميت محكم الإغلاق ومترابط، ليس من خلال هيكلٍ ما، وإنما من خلال قشرةٍ كالفقاعة.
[...] نصف البشرية تلوث لتنتج، ويلوث النصف الآخر ليستهلك. إن مجموع التلوث لدول العالم الثالث مما تنتجه عوادم السيارات، والدراجات النارية، والشاحنات، والحافلات، والمصانع المستغلة للعمال تتضاءل أهميته إذا ما قورن بالحرارة المتولدة من الفضاء الميت [...] الفضاء الميت هو فضاء سياسي: إذ يعتمد أساساً على الإزالة الجذرية للقدرة على النقد باسم الراحة والمتعة. فالراحة الآن هي العدالة الجديدة، حيث باتت دول مصغرة بأكملها تعتمد الآن على الفضاء الميت كبرنامجٍ سياسي، وتؤسس لأنظمة من الارتباك المُهندَس، وتحرّض على سياسة الفوضى الممنهجة.”5
[هيروشيما، تشرين الأول/ أكتوبر 1945. تصوير إيتش. جيه بيترسون]
عن تصميم التراجع
حتى وقتٍ قريب، استطاع المعماري رسم خطٍ زمنيٍ لمبناه، بدءاً من إنتاج المخططات الأولية للمبنى. إذ يبدأ عمر المبنى الافتراضي بالتناقص منذ لحظة تشييده إلى أن يُهجر ويتهالك نتيجة توقف صيانته، ومن ثم يُهدم لتشييد بناءٍ آخر مكانه. وفي بعض الحالات، قد ينجو المبنى من الهدم، وقد ترتفع قيمته التاريخية أو الثقافية، وقد تتزايد معها قيمته العقارية، وقد يصبح في نهاية المطاف معلماً على لائحة المباني الواجب الحفاظ عليها.
أضعف هذا التفكير ضمن أطر التقدم والنمو الخطي من قدرة العمارة على تخيل سيناريوهاتٍ مستقبلية واتخاذ إجراءاتٍ استباقيةٍ لها، كما حَصَر دورها في التحضير لواقع أكثر تقدماً والأمل في تحقيقه. وفي ظل التفكير المبني على مفهوم التقدم كغايةٍ بحد ذاتها، يصبح وضع الخطط التحسبية للسيناريوهات الأكثر تشاؤماً متنافياً مع الإيمان المطلق بالإيديولوجيا أو البرنامج الذي يتم البناء من أجله. وينعكس ذلك على عدم قدرة المعماريين على تخيل هذه النهايات ضمن مراحل الإنتاج المعماري. فمن الوارد عند إعداد مخططات معمارية لمبنى ما، أن تضم الرسومات، بالإضافة إلى مخططات المبنى الذي سيتم بناؤه في المستقبل القريب، مخططاتٍ للتوسع، بصفة ذلك السيناريو المستقبلي المرجّح. ما ليس وارداً هنا هو وجود مخططات لتقليص حجم المبنى أو تفكيكه لاعتبار ذلك شكلاً من أشكال سوء الطالع، رغم رجوح احتماليتها في العديد من الحالات. ولربما ينبع ذلك من حلم ٍ داخل الكثير من المعماريين بأن يصمد إنتاجهم المعماري أمام الزمن تماماً كما صمموه، ليصبح مثالاً حياً ومساهمةً شخصيةً لحقبةٍ تاريخيةٍ معينة بتمثيلاتها المختلفة، وذلك على افتراض أن المعماري هو المتحكم الأساس بمصير مبانيه.
إن تاريخ الاقتصاد الرأسمالي قائم بجوهره على فكرة النمو الخطي، وبأن ما تحتاجه البشرية الآن هو نمو اقتصادي لامحدود إلى أن يُشبع الكل بالثروة دون التشكيك في عواقب هذا الطرح وجدواه.6 وقد تلخص عبارة المعماري والمفكر سيدريك برايس (1934 - 2003) الشهيرة "التكنولوجيا هي الحل، ولكن ماذا كانت المشكلة؟"7 موقف العديد من دور العمارة في خدمة هذا النمو، ومن تسخير التكنولوجيا لإنتاجٍ نهم من المباني ذات التصميم الثابت بدلا من تسخيره لإيجاد حلولٍ لمشاكل قائمة وإنتاج مبانٍ قابلةٍ للتكيف وإعادة التنظيم الذاتية.
ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين حركات معمارية دعت إلى طرح رؤية لعمارةٍ "وقتيّة" تتغير مع مرورالزمن، وتتيح للمستخدمين حرية إجراء تغييراتٍ وتعديلات تتناسب مع كيفية استخدامهم للمبنى عوضاً عن مبانٍ ثابتة نجهد في إعادة تكييفها لحيواتنا المستقبلية. فمثلاً ينتقد برايس، أحد المنتمين إلى هذا الفكر، الميل اللامتناهي لإدراج المباني على قوائم الحفظ في المملكة المتحدة. ليس في هذا تقليل من شأن المباني التاريخية كمبان حيوية يمكن تطويعها لحياة معاصرة بدلا من إحلال عمارة أخرى مكانها، بل هي رغبة في التفكيرفي قابلية ملايين المباني المشيدة في القرنين الأخيرين على استضافة وظائف ومستخدمين جدد في ظروف اقتصادية واجتماعية مغايرة. فالحقيقة بأن ما يُشيّد من المباني الآن هو لخدمة حقبة زمنية معينة لتختفي بعدها كما اختفت غيرها على مدى التاريخ، ولكن هذه المرة كسلعة في إطار عملية إنتاجية استهلاكية لا محدودة وتوسعٍ عمراني مطرد.
في العام 2009 نشرت النيويورك تايمز مقالة تنعى فيها مبنى ”فرع البنك“ أحد البرامج المعمارية التي أنتجها التضخم الأخير في الصناعة المالية. وكما منازل الماكمانشينز(McMansions) التي هُجر العديد منها بسبب عجز مالكيها عن تسديد ثمنها، انتشرت فروع البنوك في كل زاوية في مدن وضواحي الولايات المتحدة لخدمة حمى قروض الإسكان والنظام الائتماني المُسبب للأزمة المالية العام 2008. وبعد وقوع الأزمة، ونتيجة رقمنة الخدمات المصرفية عبر الإنترنت ظهرت التساؤلات حول جدوى الحاجة إلى هذا العدد الهائل من فروع البنوك بعد الآن. وفي عام 2010 نشر الطالب كريستوفر تورو جوينون مشروعاً بعنوان ”عمارة من أجل التراجع“ والتي يقترح فيها جوينون نموذجا تصميميا لمصرف يمكنه التحول بقليل من التدخل ليخدم الحاجات المتغيرة لمجتمع ”ما بعد النمو“ وأبعد.8 إذ تتحول خطط الطوارئ المصممة للبنك إلى إجراءات تشغيلية عند أحداث أو تحولات أساسية في الاقتصاد المحلي.
ترتكز فكرة جونيون على توفير تصميم قادر على الاستجابة لاحتياجات المصرف المختلفة التي تتغير بتغير النظام الاقتصادي. فالنسخة الأولى من التصميم تضم برنامجاً وظيفياً يشمل بشكل أساسي قاعات لإجراء معاملات بنكية، صرافات آلية، خزائن إيداعات، استشارات مالية ومكاتب. أما النسخة الثانية لنفس التصميم المقترح فتضم قاعة للمزاد العلني، وسوقاً للمقايضة، ومخازن للسلع، وهو برنامج أكثر ملائمة في حالة الاقتصاد المتراجع. أما بخصوص المبنى نفسه، فهو قادر على تطويع نفسه للانتقال من البرنامج الأول إلى الثاني: فعلى سبيل المثال، يمكن إزالة الوحدات الخشبية المكونة لقاعة المعاملات البنكية عندما لا يعود هناك حاجة لها واستخدامها في بناء وحدات سكنية، كما يمكن إزالة صفائح النحاس التي تغطي المبنى واستخدام عائد بيعها في دعم البرنامج الجديد، حيث أن قيمة النحاس تعد أكثر ثباتاً من قيمة العملات المصرفية المتأرجحة باستمرار وفقاً لاعتبارات الأسواق المالية. فنرى هنا أن تقليص فراغات المبنى لم يتم عن طريق الهدم، وإنما عن طريق عملية تفكيك مبنية على زيادة كفاءة استخدام الموارد إلى حدها الأقصى.
”ليس السؤال هو ما نوع المبنى الذي نحتاجه، بل إذا ما كنا فعلا نحتاج إلى مبنى“؟9
يعبر سؤال برايس الشهير عن أزمة التفكير المعماري في السياق الرأسمالي لاعتبار أن حاجتنا لإنتاج المباني هو أمر مسلّم به. وهنا تصبح المفاهيم المتعددة حول ديمومة المباني او انتهائها إشكالية خصوصا عندما يصبح بالإمكان تحقيق عائد مادي كبير من مجرد امتلاك مقدّرات مادية (سواء كانت على شكل أسهم أو عقارات)، ويتخطى بذلك الربح الذي يمكن تحقيقه عن طريق التملك ذلك الذي يمكن تحقيقه عن طريق العمل. تشكل هذه الحقيقة أحد أهم التناقضات الكامنة في نموذج السوق الحر الاقتصادي الذي تم التسويق له كطريقة لتحقيق الفرص المتكافئة والخلاص من القيود الطبقية. فقد باتت المباني أحد أهم أشكال رأس المال الثابت الذي ترى انعكاساته في مدن كثيرة عبر العالم وفي المنطقة أيضا كما يحدث في بيروت مثلاً التي باتت تعاني من نقص في الإسكانات لذوي الدخل المتوسط والمحدود، في مقابل مئات الشقق باهظة الثمن غير المستخدمة لملاك أثرياء من اللبنانيين والعرب.
أسهمت السياسات الاقتصادية النيولبرالية التي رسخها رونالد ريغان ومارغريت تاتشر في نهاية السبعينات في تعزيز فكرة المبنى كشكل من أشكال رأس المال عن طريق خصخصة الملكيات العامة ورفع شعار ”حق الشراء“. وقد أدت المناداة بـ”حق الشراء“ إلى إخضاع قطاع الإسكان لسيطرة القطاع الخاص في معادلة لا يرتبط فيها تملك المنزل بالضرورة بحاجة السكن، وإنما بكونه استثماراً جذاباً.10
أتاحت السوق الحرة المجال لتدفق رأس المال بشكل مستمر نحو الأماكن التي تحقق أعلى ربح ممكن. ونتيجة تخطي قيمة المبنى الشرائية قيمته الوظيفية، أصبحت حاجة الرأسمالية للتوسع وخلق أسواق جديدة والاستثمار في التغيير هي المولّد الأساسي للبناء والهدم وفرض الهجران. ”فالحقيقة بأن كل ما تبنيه المجتمعات البرجوازية يبنى من أجل الهدم، ليتم تدويره أو استبداله في عملية مستمرة قد تدوم للأبد بأشكال أكثر ربحية من أي وقت مضى.“11 لذا فبالنسبة لديفيد هارفي فإن ”التدمير المستمر هو عملية مركزية بالنسبة للرأسمالية، وفهم هذه الحقيقة هو خطوة أولى مهمة نحو تشكيل سلوك بيئي صارم اتجاه العمارة.“12
ومن جهة أخرى، لم تسلم الأحياء التاريخية ومجتمعاتها في مدن عدة حول العالم من حي سولوكولي في اسطنبول إلى بروكلين في نيويورك من تحكم القطاع الخاص في الأسعارالعقارية لمبانيها. حيث يسعى المستثمرون إلى إعادة الاستخدام التكيفي للمباني التاريخية المتداعية ورفع سعرها في السوق العقاري مسببة بذلك ترحيل سكانها من ذوي الدخل المحدود لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف ارتفاع المعيشة والإيجارات واستبدالهم بسكان من الطبقات المتوسطة والعليا فيما يعرف بعملية "الاستبدال الطبقي" أو ”الاستطباق“ (Gentrification). يصبح المحرك الأساسي لهذه العملية هو انحدار قيمة المباني العقارية والاجتماعية إلى أدنى مستوى ممكن حتى تمر في مرحلة تحسين لاحقة ترفع عنها "الوصمة الاجتماعية" وترفع من قيمتها العقارية. 13
إن ما يميز المنظومة الرأسمالية، في المثال السابق والأمثلة اللاحقة، هي قدرتها العالية على تطويع نفسها لاستيعاب متغيرات جديدة، بما فيها تلك التي وجدت لتخطيها أو محاربتها. فقد استطاعت المنظومة الرأسمالية احتواء العديد من طروحات العمارة البيئية، وإعادة الاستخدام التكيفي للمباني التاريخية، وإعادة الإعمار، والعمارة المؤقتة في محاولة لتحويل مضامينها من حلول فعلية وطارئة إلى أفكار رمزية ذات أجندة ربحية.
[هيروشيما، 1945. تصوير شيغيو هياشي]
الرأسمالية الخضراء
حظي مفهوم العمارة الخضراء مؤخراً باهتمام متزايد في تعليم العمارة وممارستها. وعلى الرغم من وجود عدد من التجارب التي استطاعت استحداث برامج متكاملة غير مقتصرة على تقنيات وعناصر معمارية، وإنما على رؤية فكرية ونمط حياة بديل لمستخدميها، إلا أن العمارة الخضراء لا تزال إحدى المجالات المعرّضة باستمرار لإعادة الانخراط في نفس المنظومة التي تقوم بمقاومتها، حيث تهيمن مفردات ”توفير الطاقة“، و”إعادة الاستخدام“، و”المواد العضوية والمحلية“ وغيرها على التعريف السائد للمبانى الخضراء. وتستضيف الكثيرمن المباني الخضراء المعاصرة، المزودة بأسقف خضراء، وأنظمة لتكرير المياه الرمادية، أنماط حياة وإنتاج شبيهة بمثيلاتها من المباني غير الخضراء، في إطار الفهم الخطي للنمو الذي يفرضه التفكير الرأسمالي، ويعطي الختم الأخضر شرعية لبناء مدن كاملة، ويمنحها حصانة من أية مساءلة حول حاجة مجتمعاتها لها.
يرتكز الهوس المعاصر بالتوعية البيئية -حسب المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك- على استعدادنا التام للشعور بالذنب والمسؤولية اتجاه مصير الكوكب. حيث أن شعورنا بالذنب، وإن كان مزعجاً، يبعث على التفاؤل، فهو يوهمنا بأننا نمسك بزمام الأمور، وأنه بوسعنا حصر الضرر الذي قمنا بإحداثه عن طريق تغيير سلوكنا. وبالفعل، فإن العديد من الشركات الرأسمالية سارعت إلى استحداث ما يسمى بـ”الاستهلاك الواعي“، بحيث توفر سلعاً صديقة للبيئة مع إمكانية دفع مبلغ إضافي بسيط مقابل شراء الرضا عن الذات والتخلص اللحظي من الذنب مع مواصلة الأنماط الاستهلاكية نفسها. 14
كما تقدم نعومي كلاين شرحاً مغايراً للفرضية التي تدعي أن التدهور البيئي الناتج عن سوء استخدام المصادر الطبيعية وتدميرها سببه الطبيعة البشرية اللامبالية والأنانية، والتي تُركت على سجيتها للتصرف دون إدراك العواقب، مؤدية إلى إخفاق جماعي، فتقول: ”نحن عالقون لأن الإجراءات التي من شأنها تجنيبنا الكارثة المُحتّمة، هي مُهدِّدة لمصالح أقليّة نخبويّة تحكم قبضتها على اقتصادنا، وقراراتنا السياسية، ومعظم وسائل إعلامنا الرئيسية“.15 أو بعبارة أخرى، تصف كلاين الأزمة البيئية بصراع ما بين رأس المال والكوكب، حيث أن الانبعاثات الكربونية في القرن الواحد والعشرين-على سبيل المثال- تنشأ بمعظمها من جمهورية الصين، إلا أن المسبب الحقيقي لتلك الانبعاثات هو ليس النمو السكاني في الصين أو الاستنزاف غير المسؤول للموارد الطبيعية من قبل الصينيين، وإنما هو نتيجة لتركيز رأس المال الأجنبي واستغلاله للعمالة المحلية غير المكلفة. وبالتالي، فإن إلقاء اللوم على البشرية كمسبب للضرر البيئي الحالي يساهم في تشتيت الانتباه عن المسبب الحقيقي لها (رأس المال والاقتصاد النيولبرالي) ويضعف من إمكانية إيجاد حلول فعالة ومؤثرة لسبب المشكلة وليس أعراضها، أو كما يقول أندريا مالم في مقالته ”أسطورةالأنثروبوسين“: "إلقاء اللوم على الجميع هو شكل آخر لعدم إلقاء اللوم على أحد".16
وعليه، فإن النظر إلى الكوارث البيئية كنتيجة لمنظومة اقتصادية مهيمنة يستدعي بالضرورة أن يقوم الفكر المعماري البيئي في إعادة النظر في المسببات الحقيقية للضرر البيئي وإيجاد حلول جذرية لتخطيها.
الهدم الخلاّق وعمارة ما بعد الحرب
كما تحدثنا سابقا، لم تعد معايير، كتداعي المباني وانتهاء عمرها الوظيفي، العامل الوحيد للهجران والهدم. فالإفلاس، وأزمة الرهن والقروض، وإغلاق المصانع والشركات، وتراجع شعبية مناطق معينة، باتت عوامل هامة في تحديد حياة المباني وقيمتها العقارية، وفي هجران البيئات المبنية بشكل عام. وهذا بحد ذاته دافع أساسي لانتقال رأس المال إلى جغرافيات أخرى، لإنتاجٍ معماريّ آخر، في عملية غير مستدامة من البناء والهجران، لإثراء فئات معينة، وفي فهم ملتوٍ لعملية الهدم الخلاق (Creative Destruction)، التي استخدمها الاقتصادي شومبيتير، في خمسينيات القرن العشرين، لوصف النمو الاقتصادي، القائم على عملية تراكمية مستمرة من تطوير التكنولوجيا، واستبدالها بما هو أكثر تطوراً، فهو هدم يعقبه بناء، ومن هنا تم وصفه بالخلاّق.17
وفي هذا السياق يتغير أيضاً مفهوم إعادة الإعمار بعد التدمير واسع النطاق أثناء الحروب والكوارث الطبيعية. فبعد الحرب العالمية الثانية، اعتُبرت إعادة الإعمار طريقة لإنعاش الاقتصاد، وتلبية حاجات مجتمات ما بعد الحرب، برعاية من الدولة. أما الآن فقد تحوّلت مشاريع إعادة الإعمار في الجنوب العالمي إلى مجال ربحي للشركات العالمية غير الخاضعة لسيطرة أو رقابة الدولة كما في لبنان والعراق وأفغانستان والبلقان وغيرها.
فمثلاً، بدأ التخطيط لإعادة إعمار العراق بعد ستة أشهر من بدء الغزو الأمريكي العام 2003. وبلغت حصيلة ما أنفقته الولايات المتحدة (حكومة وقطاعاً خاصاً) حتى شهر حزيران 2012 ما قيمته 60 بليون دولاراً أمريكياً، جاعلة منه أكبر مشروع إعادة إعمار تقوم به الولايات المتحدة خارج أراضيها، منذ مخطط مارشال الذي نفذته في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.18 توزعت مشاريع إعادة الإعمار في العراق ما بين البنية التحتية، والأجهزة الأمنية، والهيكلية الاقتصادية والسياسية، والمؤسسات القانونية، والمساعدات الإنسانية. وشملت البنية التحتية، ومحطات توليد الماء والكهرباء، إضافة إلى المدارس، والشوارع، والمشاريع السكنية. وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على بدء المشاريع، تبدو إشكالياتها واضحة أكثر من أي وقت مضى.
وبغض النظر عن الفشل الذريع لتلك المشاريع في تحقيق أهدافها المعلنة، والكم الهائل من الأموال المهدورة (حوالي 8 بلايين دولار أمريكي)، فإن الغاية هنا هي الإشارة إلى التناقضات الكامنة وراء ظاهرة إعادة الإعمار من قبل دول قامت هي نفسها بالتدمير، وتوضيح الأبعاد التي تأخذها فكرة الهدم في هذا السياق. وقد ساهمت سيطرة شركات القطاع الخاص على هذه المشاريع في تمكين الشركات الأجنبية من السيطرة على موارد العراق الاقتصادية، وجعلت من إمكانية التطوير المحلي فكرة بعيدة المنال.
ومن جهة أخرى، لم يعد ارتباط المنظومة الرأسمالية بالحروب والكوارث الطبيعية مقتصراً على قطاع شركات السلاح والنفط، وشركات إعادة الإعمار فحسب، بل بات يشمل أيضا شركات تصنيع سكن اللجوء للمجتمعات المنكوبة. مثلاً، اختارت المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العام 2013 شركة سويدية لتصنيع وحدات سكنية مؤقتة للاجئين تعمل بالطاقة الشمسيّة من مواد مُصنعّة وتقنيات حديثة صالحة لثلاث سنوات. يتم إنتاج هذه الوحدات ضمن عملية تصنيع معقدة داخل منظومة التجارة العالمية، حيث يُصمّم النموذج السويدي في أوروبا، ومن ثم يتم تصنيعه في إحدى دول آسيا، ومن ثم شحنه إلى الدول المستضيفة للاجئين، دون الأخذ بعين الاعتبار مصير تلك الوحدات عند انتهاء صلاحيتها، وأثر مخلفاتها على البيئة. وفي محاولة عولمة سكن اللجوء هذه، يبدو من الصعب استكشاف سبل أخرى لسكن معتمد على مواد وعمالة محلية. كما أن هذا النموذج لا يعطي الفرصة بمساهمة حقيقية للاجئين في بناء مسكنهم والتي تتطلب الكثير من الحراك والمشاركة المجتمعية، وتسهم في التخفيف من المعاناة التي سببتها الكارثة.
عن عمارة تَحسبيّة (استباقية)
ولكن ماذا لو توفرت نهايات أخرى للمباني؟ ماذا لو ابتدع المعماري أثناء التصميم تصورات مستقبلية أخرى للمبنى؛ تلبي احتياجات زمن ذي سياق اجتماعي واقتصادي مختلف يتداعى فيه البرنامج الذي بني من خلاله، وتصورات تسمح للمجتمع -مستقبلا- بتغيير تكوين المبنى تبعاً لحاجاته المتغيرة، فلا يكون مجرد وعاء للبرنامج؟ وكيف يختلف هذا عن ذلك المجال المتنامي في تكييف المباني وخصوصا التاريخية منها، لاستخدامات ووظائف غير التي صممت من أجلها؟
يكمن الجواب في هذا النقاش المتزايد حول أهمية دور المعماري في إنتاج عمارة "تحسبيّة" مصممة لتتغير باستمرار خارج ذلك الخط الزمني الحتمي لحياتها، في سبيل عمارة تتيح الفرص وتمكّن من التغيير في عالم متغير، يصبح فيه الدور الأساسي للمستخدم وليس للمعماري.
ظهر مصطلح العمارة التحسبيّة (Anticipatory Architecture) في أوروبا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما اندمج التطور التكنولوجي للثورة الصناعية بفكر الحداثة المهتم بمفاهيم "التقدم"و"المستقبلية" لبناء مجتمعات ما بعد الحرب في أوروبا.19 حيث سعى معماريو الحداثة إلى استغلال التطور التكنولوجي من أجل إنتاج عمارة تستبق التغيير، وتكيّف المبنى حسب الاحتياجات والبرامج المتغيرة لمستخدميه، والظروف البيئية من حوله، حيث تهتم عملية التصميم باستيفاء المبنى لاحتياجاته التكنولوجية أكثر من الاهتمام بمضامين معمارية تاريخية سابقة.
ورغم طوباوية الطروحات المعمارية في تلك الفترة، التي رأت مستقبلاً واحداً وهوتقدم البشرية من خلال التقدم التكنولوجي، والدمج بين الآلة والعمارة لبناء مجتمعات صناعية منتجة في دولة الرفاه، إلا أنه من المهم التمعن في مفهوم العمارة المتغيرة آنذاك. ففي العمارة الحديثة، استُخدم بدايةً المسقط الأفقي الحر في المواقع الصناعية، لاحتواء التغير السريع لأنماط وخطوط الإنتاج، والتي انعكست أيضا عند لوكوربوزييه في رؤيته للوحدة السكنية كامتداد لروح العمل الصناعي والمنطق المستمر للتغير المكاني. وبذلك يصبح الفراغ غير المتخصص والمحايد وسيلة الرأسمالية في احتواء أية أوضاع غير متوقعة، حيث أن "الصفة العامة التي يمتاز بها هذا الفراغ من قابلية للتطويع، وعدم التخصصية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصفة مميّزة للنوع البشري؛ وهي انعدام الحدس التخصصي الذي ينتج عنه صعوبة التنبؤ بأفعال وردّات أفعال الإنسان. وكلما اعتمد رأس المال على هذا الجانب من الطبيعة البشرية لاستغلال القوى العاملة، كلما استدعت الحاجة إلى أن يكون الفراغ محايداً لاحتواء مختلف الأوضاع التي لا يمكن التنبؤ بها." 20
أما في سياق مجتمعات ما بعد الصناعية، فيقصد بالعمارة التحسبيّة تلك العمارة ذاتية التوازن، وذاتية التعديل، والتي لا تنتهج عملية تصميم لإنتاج مبانٍ ثابتة لتخدم وظيفة معينة، لفئة مستخدمين محددة، ولفترة زمنية محددة. وهنا تختلف النظرة إلى المستقبل عما كانت عليه في مشروع الحداثة بعد الحرب العالمية الثانية، فمفهوم العمارة التحسبية الآن يتوقع تراجعاً للمشروع أو الفكر الذي بُنيت من خلاله، ويوفر سيناريوهات مختلفة لتهالكها كالتقليص وتغيير الاستخدام، بدلاً من الهجر والهدم والإحلال. وبذلك تعتمد العمارة التحسبيّة على استخدام تكنولوجيا العصر لهذا الغرض.
على المبانى أن تموت، ولكن كيف؟
في النهاية، فإن قدرة الرأسمالية على احتواء الطروحات المذكورة سابقاً، يمكن ردّه إلى كون هذه الطروحات تتعامل مع أعراض الرأسمالية وليس مع فكرها. وقد تكون الخطوة الأولى نحو تغييرٍ جذري، بطرح مغاير لمبدأ التقدم الخطي، ونظرة بديلة لسير الزمن من خلال نموذج النمو والتراجع الدوري. فوفقاً لنظرية هوارد وإليزابيث أودم21 عن أنظمة المجتمعات البشرية، فإن المبادئ التي تحكم الأنظمة الطبيعية والبيولوجية تحكم المجتمعات البشرية كذلك، من خلال تكرار دورة النمو والتراجع. ومن هنا، فإن النمو الخطي غير المحدود، بغض النظر عن مدى التقدم التكنولوجي، يتنافى مع ديناميكية أنظمة المجتمعات.
يعرض الثنائي أودم دورة حياة للأنظمة بصفة عامة، مكونة من أربع مراحل، تعمل كل منها وفق استراتيجية مختلفة: الأولى هي مرحلة النمو، والتي يقوم فيها النظام باستهلاك الموارد المتاحة إلى أن يصل إلى أقصى درجاته تعقيداً. تتبعها مرحلة الذروة، وهي مرحلة انتقالية، يقف عندها النمو لعدم توفر المصادر اللازمة لاستمراره، ويعمل فيها النظام بكفاءة تكفيه لأن يستمر بالعمل مع استهلاك الحد الأدنى من المصادر، حيث يقوم بتجميع وتخزين المعلومات تحضيراً للمرحلة الثالثة وهي مرحلة التراجع. خلال هذه المرحلة، يصغر حجم النظام تدريجياً وتزداد عمليات إعادة التدوير الداخلية، حيث تقوم بعض الأنظمة بتطوير وسائل لتخزين معلومات عن نفسها لتساعدها في عملية النمو عندما تكرر الدورة نفسها. أما المرحلة النهائية فهي إعادة الإحياء، وتبدأ عندما يتخطى إنتاج النظام المصغر للموارد استهلاكه لها، ويصبح هناك تراكماً كافياً للموارد، فتبدأ مرحلة النمو من جديد. ويمكن ملاحظة هذا النمط في عدة أنظمة ابتداءً من دورة حياة النباتات ووصولاً إلى تعاقب القوى السياسية العالمية. 22
تمتاز العمارة التحسبيّة أيضا بالتراكمية. حيث أن دوريّة حياة المبنى تتضمن مرحلة تخزينه لمعلومات عن نفسه في نهاية كل دورة، تحضيراً لتلك التي تليها. ومع استمرارية الدورات المتعاقبة، يحدث تراكمٌ معرفيٌّ، مرتبطٌ باستجابة المبنى الفراغية لتغيرات محيطه خلال المراحل المختلفة، مما يُعزّز ويُغني عمليات الإنتاج الفراغي اللاحقة. فبالإضافة لاستجابته للتغيرات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، يصبح المبنى جزءاً مشاركاً في إحداثها.
يمكن الاستدلال مما سبق على أن نموذج التقدم الخطي يتقبل مبدأ التراجع الجزئي في سبيل تحقيق التقدم الكلي في المحصلة، وأنه ينظر إلى التراجع كمرحلة لا بد منها لتحقيق التقدم في النهاية. في حين أن النظر إلى حياة الأنظمة كدورات متكررة هو خطوة أولى للتفكير في المبنى ككائن عضوي متغير كما المجتمعات، وقادر على التكيف مع مختلف مراحل النمو والتراجع، وعلى تخزين معلومات ذاتية في كل مرحلة، لتحقق تراكمية هي أساس دورات حياته اللاحقة. مما يستدعي التفكير في الأدوار المترابطة بين المعماري والمستخدم، لإيجاد عمارة تتفاعل مع هذه الدورية وتستفيد من الإمكانيات التي تتيحها.
تهدف عملية هدم المباني، ضمن السياق الرأسمالي، إلى توفير أرضية مستوية نظيفة مستعدة لاستقبال المخططات التطويرية اللاحقة، حيث يتم الترويج لكل من البناء والهدم كوسائل لإتاحة فرص التقدم. إن رؤيتنا لكل من البناء والهدم كأدوات للتشكيل الفراغي ستختلف عند الإدراك بأن العمارة هي وسيلة لحجب الاحتمالات بمقدار كونها أداةً لإتاحتها. فقرارات "عدم البناء" أو "تفكيك البناء" هي أيضا أدوات للتشكيل الفراغي، وترتبط بشكل وثيق بالاحتياجات المتغيرة والموارد المتاحة.
الهوامش:
1- Groák, Steven, The Idea of a Building: Thought and Action in the Design and Production of Buildings. London: E. & F. N. Spon, 1992, p. 105.
2- “Architecture is now a tool of capital, complicit in a purpose antithetical to its social mission”, The Architectural Review, accessed July 6, 2015.
3- Carins, Stephen and Jane M. Jacobs, Buildings Must Die: A Perverse View Of Architecture. Cambridge, Mass.: MIT Press, 2014.
4- Picon, Antoine, Karen Bates trans. “Anxious Landscapes: From the Ruins ti Rust”. Grey Room 01 (Fall 2000): 64–83
5- Koolhaas, Rem “Junkspace”. October, Vol. 100, Obsolescence. (Spring, 2002), pp. 175-190.
6- Schumacher, E. F., Small Is Beautiful: A Study of Economics As If People Mattered. London: Vintage Books, 1973. p. 99.
7-The Canadian Centre for Architecture (CCA), ”Fonds 144: Cedric Price fonds.” Accessed March 20, 2015.
8- Guignon, Christopher Tohru, “Design for Decline” (Thesis document, MIT, 2010)
9- Design Museum, ”Cedric Price.” Accessed March 20, 2015.
10- “Architecture is now a tool of capital, complicit in a purpose antithetical to its social mission”, The Architectural Review, accessed July 6, 2015.
11- Berman, Marshall, All That Is Solid Melts into Air: The Experience of Modernity. New York:Verso, 1982
12- Carins, Stephen and Jane M. Jacobs, Buildings Must Die: A Perverse View Of Architecture. Cambridge, Mass.: MIT Press, 2014.
13- Ibid
14- Zizek, Slavoj. “The delusion of Green Capitalism”. Panel, The Graduate Center, CUNY, New York, April 4, 2011
15- Klein, Naomi. This Changes Everything: Capitalism vs. The Climate. London: Allen Lane, 2014.
16- Malm, Andreas, “The Anthropocene Myth.” Jacobin (March 30, 2015). Accessed April 10,2015.
17- Carins, Stephen and Jane M. Jacobs, Buildings Must Die: A Perverse View Of Architecture. Cambridge, Mass.: MIT Press, 2014.
18- “How the US lost billions over nine years in Iraq”. Last modified, Thursday, 19 Jun 2014.
19-Perry, Chris, “Anticipatory Architecture | Extrapolative Design.” Acadia2010:life in:formation (2010): 307-312.
20- Aureli, Pier Vittorio, “The Theology of Tabula Rasa: Walter Benjamin and Architecture in the Age of Precarity.” The City as a Project (May 9, 2015).
21- Odum, Howard T. and Elisabeth C. Odum, The Prosperous Way Down. Boulder: University Press of Colorado, 2001.
22- Ibid